تفاحة واحدة فقط.

يعقوب الريامي.
5-2022م.

ظل الطفل يجرى وأحداق عينيه تعتصر بدموع سخينة فقد وخزه الألم.

كانت خطواته السريعة تتجه إلى البيت متشوقا إلى دفن رأسه في حضن أمه الرؤم وتجفيف دموعه بملابسها.

مازالت ذاكرته تحمل تفاصيل ذلك المشهد الذي أوجعه وأحزنه، تصرعه توارد الاسئلة..
لِمَ غضب أبي؟
لماذا عاملني بقسوة؟.

                                                                                           *  *  *  *

قام الخليفة الراشد عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه من مجلسه مستقبلا مجموعة من الرجال وقد حملو في أيديهم جِوالات مملوءة بفاكهة التفاح من عوائد الفيء، وهو المال المتحصل عليه من غير المسلمين بلا قتال.

وِضَعَ التفاح على شكل أكوام في مجلس دار الخلافة ليناله التقسيم بين الرعية، وقد حضر طائفة من المسلمين ليأخذوا نصيبهم.

لقد دأب الخلفية الزاهد على حضوره المبارك وتقسيمه للتفاح بيده العادلة.
كان يجلس بجانب الخليفة طفله الصغير، مسترهبا هذا المشهد العظيم وبالجمع الغفير.
كانت نظرات الطفل مشتته، تارة تجول في وجوه الناس وتارة أخرى تسقط على أكوام التفاح فيتراقص منظره اللامع النظيف بين عينيه متلذذا برائحته الزكية التي عبق بها المجلس.

كانت شهيته الجارفة في قضم واحدة تسيطر عليه، وما انفك على مسح لعابه السيال من بين شفتيه.
لم يستطع الطفل كبح شغفه في امتلاك تفاحة ناضجة فمد يده والتقط واحدة مسارعا بها إلى فمه. ما كادت تشبك أسنانه على التفاحة إلا وانتبه أباه الخليفة إلى صنيعه فعاجله بسرعة خاطفة وانتزع التفاحة من بين فكيه، محدثةً ألما في رباعيته!.
بعدها خرج الطفل مهرولاً محزوناً.

                                                                                           *  *  *  *

أجهش الطفل في البكاء بين يدي أمه ثم أخذ يسرد ما وقع له مع أبيه الخليفة.
بعد تقسيم الفيء عاد الخليفة الخامس عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه إلى بيته.
حين دلف منزله وجد زوجته تنتظر مقدمه، وأمارات العتاب باديه على وجهها.
صمت لبرهة مفكرا وهو يشُم بعمق .. بعدها تكلم:

  • إني لأجد رائحة التفاح في بيتي، هل أتيت شيئاً من هذا الفيء؟.
    بادرته زوجته:
  • لا أيها الخليفة.. هذا تفاح اشتريته من السوق جبرا لنفس طفلك الذي جاء يذرف العبرات، وأنت تعلم سبب ذلك يعود إلى تفاحة واحدة فقط.

جلس الخليفة الراشد بجانب زوجته في سكينة ثم قال بحنو:

  • والله لقد انتزعتها من ابني لكأنما انتزعتها من قلبي، لكني كرهت أن أضيع نفسي من الله عز وجل بتفاحة من فيء المسلمين !.

الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه يدرك تماما أن منصبه لا يخوله أخذ شيئاً من المال العام بغير وجه حق، سواء له أو لأحد من أهله.

الخليفة الراشد يُعَلِّم أمتهُ فضيلة الأمانة ويبدأ بطفله أولا.

ورع الخليفة يحتاج إلى صرامة وتأديب للنفس فالتساهل في أخذ القليل يقود إلى أخذ الكثير، وهذا بداية الفساد.

لقد أيقن الخليفة أن التفاحة خفيفة في ميزان الدنيا ثقيلة في حساب الآخرة.

التعليقات معطلة.